العمل تحت ضغط.. 600 ألف سويدي يعانون عبئاً وظيفياً يهدد صحتهم النفسية والجسدية
العمل تحت ضغط.. 600 ألف سويدي يعانون عبئاً وظيفياً يهدد صحتهم النفسية والجسدية
كشفت دراسة حديثة صادرة عن مصلحة بيئة العمل السويدية أن أكثر من 630 ألف شخص في السويد يعانون شعوراً دائماً بالضغط المهني والإنهاك الوظيفي، في واحدة من أكثر الظواهر تنامياً داخل دولة طالما اعتُبرت نموذجاً عالمياً للتوازن بين العمل والحياة.
الدراسة التي شملت نحو 17,600 موظف من مختلف القطاعات أظهرت أن 10 في المئة من القوى العاملة في السويد يعانون ضغط عمل مرتفعاً باستمرار، في حين ترتفع النسبة إلى37 في المئة في مجالات الرعاية الصحية ورعاية المسنين والتعليم، ما يجعلها القطاعات الأكثر تضرراً وفق موقع صحيفة "الكومبس" الإخبارية.
النتائج المثيرة للقلق لا تتعلق فقط بالإرهاق المهني، بل تكشف عن تحول هيكلي في ثقافة العمل السويدية، حيث باتت الإنتاجية تغلب على الاعتبارات الصحية والنفسية، وفقاً لتصريحات المدير العام للمصلحة، لارش لوف الذي أكد أن "بيئة العمل في كثير من القطاعات أصبحت أولوية مؤجلة، لا يتم الالتفات إليها إلا بعد ارتفاع نسب المرض أو التغيب عن العمل، بدلاً من اتباع سياسة وقائية ممنهجة".
من التفاني إلى الإنهاك
يرى خبراء العمل أن المشكلة لا تتعلق فقط بعدد ساعات العمل، بل بنوعية الضغوط والتوقعات غير الواقعية التي تُفرض على العاملين، ففي قطاعات الرعاية والتعليم، يُظهر العاملون التزاماً عالياً تجاه مهامهم المهنية والإنسانية، ما يجعلهم أكثر عرضة للاستغلال غير المقصود من قبل إدارات العمل التي تعتمد على "الولاء المهني" لتعويض نقص الكوادر أو التمويل.
لارش لوف حذّر من أن “بعض أرباب العمل يستغلون التزام الموظفين العالي، ما يؤدي إلى إنهاكهم دون وعي، مشيراً إلى أن هذه الظاهرة تتفاقم في المؤسسات العامة التي تواجه تحديات مزمنة في الموارد البشرية.
ووفقاً للدراسة، فإن بلاغات الأمراض المهنية الناتجة عن عوامل تنظيمية أو اجتماعية ارتفعت في السويد بنسبة 30 في المئة خلال عام واحد فقط، معظمها مرتبط بضغط العمل وسوء التنظيم، وهو ما تعده مصلحة بيئة العمل مؤشراً مقلقاً على تدهور شامل في جودة بيئة العمل الوطنية.
أسباب هيكلية
تربط التحليلات بين هذا الإنهاك المهني وتغيرات أعمق في النموذج الاقتصادي والاجتماعي السويدي خلال العقد الأخير، فبينما ظلت السويد لعقود رائدة في الرفاه الاجتماعي وتوازن العمل والحياة، أدت الضغوط المتزايدة على القطاع العام، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع التمويل الحكومي للخدمات الاجتماعية، إلى انتقال العبء نحو الأفراد والعاملين.
كما أسهمت التحولات الرقمية، وازدياد متطلبات الأداء والمساءلة في المؤسسات العامة والخاصة، في خلق بيئة عمل أكثر تنافسية وأقل استقراراً نفسياً.
ويرى باحثون من جامعة أوبسالا أن ثقافة العمل المرن التي كانت في الأصل تهدف إلى تحسين رفاهية الموظف، تحولت في بعض القطاعات إلى نظام غير مرن يدمج العمل بالحياة الخاصة على نحو دائم، ما يؤدي إلى فقدان الحدود الفاصلة بين الراحة والإنتاج.
الفئات الأكثر تضرراً
تُظهر الدراسة أن الشعور بضغط العمل لا يفرّق كثيراً بين الجنسين أو الفئات العمرية، غير أن النساء بين 30 و49 عاماً يمثلن الفئة الأكثر عرضة للإرهاق المستمر، ولا سيما ذوات المهن التي تجمع بين العمل المهني والمسؤوليات الأسرية.
وتشير البيانات إلى أن الممرضين والممرضات المساعدين، ومعلمي المدارس الأساسية، ومعلمي رياض الأطفال، وأساتذة الجامعات، هم الأكثر تأثراً.
وفي كثير من هذه المهن، يتعامل العاملون مع احتياجات إنسانية مباشرة –كالمرضى أو الأطفال– ما يضاعف الضغط النفسي والذهني ويجعل من الصعب فصل المشاعر عن العمل اليومي.
أصوات المنظمات والنقابات
أصدرت نقابة عمال الرعاية الصحية (Kommunal) في السويد بياناً حذّرت فيه من أن بيئة العمل الحالية في المستشفيات ودور الرعاية تدفع العاملين إلى حدود الإنهاك الجسدي والنفسي، مشيرة إلى ارتفاع معدلات الإجازات المرضية بنسبة 25 في المئة خلال العامين الماضيين.
من جانبها، دعت منظمة العفو الدولية في السويد إلى النظر في القضية من منظور حقوقي وإنساني، معتبرة أن ظروف العمل غير الصحية تشكل انتهاكاً لحق الإنسان في بيئة عمل آمنة وصحية، وهو حق نصت عليه اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 155، التي تلزم الدول باتخاذ التدابير الضرورية لحماية العمال من المخاطر المهنية والنفسية.
كما عبّرت منظمة الصحة العالمية عن قلقها المتزايد من تصاعد معدلات الأمراض المرتبطة بالتوتر والإجهاد النفسي في الدول الإسكندنافية، موضحة في تقرير صدر عام 2025 أن “العمل المفرط وعدم التوازن بين الجهد والراحة أصبحا من أبرز مسببات الاكتئاب واضطرابات النوم وأمراض القلب في المجتمعات الصناعية المتقدمة”.
تداعيات إنسانية واقتصادية
الأزمة لم تعد محصورة في الجانب الفردي، إذ ينعكس الإنهاك المهني على النظام الصحي والاجتماعي برمّته. فوفقاً لتقديرات هيئة التأمينات الاجتماعية السويدية تشكّل الأمراض النفسية المرتبطة بالعمل نحو 42 في المئة من جميع حالات الإجازات المرضية طويلة الأمد، ما يؤدي إلى خسائر اقتصادية تُقدّر بمليارات الكرونات سنوياً نتيجة انخفاض الإنتاجية وارتفاع تكاليف العلاج.
ويرى مختصون أن هذه التداعيات تمس جوهر نموذج الرفاه في السويد الذي يقوم على المشاركة الاجتماعية والاستقرار النفسي للعاملين. إذ إن إرهاق القوى العاملة في القطاعات الحيوية، مثل الرعاية والتعليم، قد يؤدي على المدى البعيد إلى تراجع جودة الخدمات العامة وتزايد العجز في الكوادر المؤهلة.
ورغم تصاعد التحذيرات، تشير المنظمات النقابية إلى أن الاستجابة الحكومية لا تزال محدودة فقد أعلنت وزارة العمل عن نيتها تعزيز برامج الدعم النفسي داخل أماكن العمل وزيادة الرقابة على بيئات العمل عالية الضغط، لكنها لم تقدّم حتى الآن خطة واضحة لمعالجة الأسباب الهيكلية للأزمة.
ويرى المدير العام للمصلحة، لارش لوف، أن الحل يجب أن يكون نظامياً لا فردياً، مؤكداً ضرورة بناء استراتيجية وقائية تتعامل مع تنظيم بيئة العمل، وتوزيع المهام، وتوفير الموارد، وليس فقط دعم الأفراد المتضررين بعد وقوع الضرر.
أبعاد قانونية وحقوقية
من منظور القانون الدولي، تندرج هذه الأزمة ضمن الحق في العمل الكريم المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي يضمن بيئة عمل آمنة وصحية لكل إنسان، كما أن منظمة العمل الدولية حذرت مراراً من أن تجاهل المخاطر النفسية والاجتماعية في أماكن العمل يعد إخلالاً بالتزامات الدول الموقعة على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
ويشير مراقبون إلى أن السويد التي كانت سباقة في تشريعات العمل الإنسانية، تواجه اليوم تحدياً أخلاقياً يتمثل في حماية نموذجها الاجتماعي من التحول إلى مصدر ضغط لا رفاه.
ويستعيد الخبراء جذور الأزمة إلى مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19 التي أعادت رسم حدود العمل والحياة، حيث فُرضت أعباء إضافية على العاملين في القطاع الصحي والتعليمي. كما أسهمت التحولات الاقتصادية العالمية وارتفاع التضخم في زيادة الضغوط على المؤسسات العامة، ما انعكس مباشرة على العاملين في الخطوط الأمامية.
في المقابل، يرى باحثون أن ما يحدث اليوم يشبه اختبار صمود للنموذج السويدي الذي كان لعقود مرجعاً للعدالة الاجتماعية والرفاه النفسي، وهو ما يتطلب مراجعة شاملة للسياسات العمالية والتعليمية والرعائية لضمان استدامته.
نحو رؤية إنسانية جديدة
يؤكد المراقبون والمنظمات الحقوقية أن معالجة الأزمة تتطلب تحولاً جذرياً في فلسفة العمل نفسها، بحيث يُنظر إلى الصحة النفسية والكرامة المهنية بصفها جزءاً لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية.
ففي بلد يُعرف بتقديره للوقت والإنسان، بات أكثر من نصف مليون مواطن يشعرون بأنهم مرهقون جسدياً ونفسياً في سبيل الحفاظ على توازن لم يعد موجوداً فعلياً.
ومع تزايد الأصوات المطالبة بإصلاح بيئة العمل وتبني نهج وقائي مؤسسي، يبدو أن السويد تقف اليوم أمام خيار تاريخي: إما الحفاظ على إنسانية نموذجها الاجتماعي، أو المخاطرة بتحويله إلى منظومة إنتاجية بلا راحة ولا طمأنينة.










